ففي هذه الأيام نستقبل الإجازة الصيفية ، ونودع السنة الدراسية ؛ ومن الطبيعي أن تكثرَ في هذه الأيام مناسبات الأفراح وحفلات الزواج ، وهذه ـ ولله الحمد ـ علاماتٌ على كثرة الخير ، والرغبة في التحصين والعفاف .
كيف لا والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد حث عليه ، ورغب فيه يوم أن قال : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ؛ فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع ؛ فعليه بالصيام ؛ فإنه له وجاء " .
وقال ـ أيضا ـ : " ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونُهم ـ وذكرَ منهم ـ : الناكحُ يريد العفاف " [حسنه الألباني في غاية المرام] .
وقد امتنَّ الله على خلقه بِهذه النعمة ، فقال جل وعلا : { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم] ، وقال تعالى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } [النحل 72] .
أيها المسلمون : إن في النكاح من المقاصد العظيمة ، والغايات النبيلة ما لا يمكن حصرها ، والتي جاء بها هذا الدين العظيم ، ففيها : إعفاف النفس وغض البصر ، وتحصين الفرج ، وابتغاء الذرية الطيبة ، ويحصل به السكن والألفة والمحبة والمودة .
أخي المسلم : ينبغي أن تعلمَ أن هذه النعم المترتبة على النكاح تحتاج إلى شكر ؛ فإن النعم إذا شُكرت قرَّت ، وإذا كُفِرت فَرَّت . لكن المؤلم أننا نجد اليوم من بعض المسلمين مَن لا يشكر هذه النعم ـ فضلا عن أن يقابلَها بالنكران والبطر ـ ، حتى أصبحْنا نرى وخاصة في هذه الأزمنة المتأخرة وذلك من خلال ما يحصل في بعض صالات الأفراح وقاعات المناسبات ممن يتفَنَّنون في إحْداث طرق جديدة ، وأساليب عديدة يعصون الله بها في دهاليز تلك القاعات ، وبين جَنبات تلك الصالات ، يمضون بها لياليهم ، ويمارسون فيها معاصيهم .
إن المتأمل لكثرة ما يحصل من المنكرات في تلك الليلة لَيَعجز عن حَصرها فضلا عن إنكارها ، فليت شعري أبمثل هذا تُشْكر وتُستجدَى النِّعَم ؟!! أمْ بمثل هذا تُرفع وتُدْفعُ النِّقَم ؟!!
إن التفاخر بالمعاصي والمجاهرة بالذنوب والتبجُّح بها لَهو نذير خطر، ورسولُ شرَر ، ومُؤْذِنٌ بقُربِ حُلول العذاب . قال تعالى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ـ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ـ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } ، وقال عليه الصلاة والسلام : " كُلُّ أمَّتي مُعافَى إلا المجاهرون " ، نسأل الله السلامة والعافية .
ألا وإن مِن أهم المنكرات التي ابتليت بها كثير من أفراح المسلمين وابتليت بها تلك القصور : هو التصوير وإن المصيبة تَكبر ، والخَطْبُ يَعظُم عندما يكون في قِسم النساء . ساعد على هذا ما قَذَفَتْه علينا التقنية الحديثة من صناعة أجهزة الجوال الصغيرة ذوات الكميرات الرقمية ، والتي أساء الاستفادة منها بعضُ الناس ـ هداهم الله ـ .
فكم هي مصيبة أن تُلتقط الصوَر لبعض العفيفات الغافلات المحصنات وعلى حين غرة منها ، وهي في أبْهى حُلَّتِها ، وكامل زينتها ثم يتاجَر بِهذه الصور عبر الرسائل الإلكترونية ، وعبرَ الشبكات العنكبوتية يتداولُها السَّفَلة ، والسُّذَّج من الناس ، عافانا الله وإياكم .
أيها المسلمون : إن ما يحصل من هذا العبث الشيطاني لَهو بكل المقاييس من التلاعب بأعراض المسلمين والمساومة عليها . أين هؤلاء من قول الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النور19] ؟!!
أين هؤلاء من قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " يا معشر مَن أسلم بلسانه ، ولم يفض الإيمان إلى قلبه : لا تُؤذوا المسلمين ، ولا تتَّبِعوا عوراتِهم ؛ فإنه مَن تَتَبَّع عورةَ أخيه المسلم ؛ تَتَبَّع الله عورتَه ، ومن تتبع الله عورته ؛ يفضحه ولو في جوف رحْلِه " [صحيح الجامع 7985] .
كم هي مصيبة لو فجع أحدٌ الناس برؤية صورة قريبةٍ له أو واحدة من محارمِهِ ـ لا قدَّر الله ـ بين أيدي مَن يُتاجرون بالأعراضِ ويتبعون الشهوات ؛ فربما قال حينَها : ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) .
المنكر الثاني :
من المنكرات التي ابْتُلِيَتْ بِها كثير من الزواجات اليوم (المنصة والتشريعة) !! وما أدراك ما المنصة والتشريعة ؟! وهي صورة من صور الاختلاط بين الرجال والنساء والتي حذَّر منها المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما جاء عنه حيث قال : " إياكم والدخولَ على النساء . قال رجل من الانصار : أفرأيت الحمو يا رسول الله ؟ قال : الحمو الموت " .
أما حقيقتها : فهي موضة غربية انتهت صلاحيتُها وتعفَّنَتْ وفَسَدَت ومَجَّها الغربُ ولَفَظَها ؛ فتَلَقَّفَها ـ وبكلِّ أسف ـ بعضُ أبناءِ المسلمين ، يتسابقون إليها يظنون أنَّها الرُّقِيّ والتطور ، وهي واللهِ التخلفُ والتدهور ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كانَ قبلكم حَذْوَ القُذَّة بالقذة ، حتى لو دخلوا جُحر ضَبٍّ لَدَخَلتموه ، قالوا يارسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟! " .
أما صورتُها : فهي أن يدخلَ الشاب العريس مصطحبًا عروسَه يَشُقّان صفوفَ النساء ، وتلك الجموع الى المنصة المعدة لهما فيصعدان درجاتِها بخطوات ملؤها الغُرور والكبرياء ـ وإن شئت فسَمِّها قلةَ الحياء ـ ، ليجلس الاثنان على كرسيين متقابليْن فيقومان بدور تمثيلي ساقط سامج ، أعد له السيناريو والبروفات مسْبَقًا ، وذلك بأن يُلبِس كلُّ واحدٍ منهما الآخر دبلةً ، ويتبادلان فيها الابتسامات أمام تلك العدسات ، ونظرات المعجَبات ، وأضواء التصوير التي تكاد أن تخطفَ الأبصار .
وربما كان العريس على درجة عالية من الجرأة والوقاحة فيقوم بطبع قبلة حارة على خد عروسِه في منظر يَخدش الحياء ، ويَجرح العفافَ أمام الجموع من الجماهير والحضور من النساء ، ووسط تلك الهالات من التصفير والصراخ ، والتصفيق والإعجاب .
قال العلامة ابن باز ـ رحمه الله ـ [4/244] : (( ومن الأمور المنكرة التي استحدَثها الناسُ في هذا الزمان : وضعُ منصّة للعروس بين النساءِ يَجلسُ إليها زوجُها بِحضرة النساء السافراتِ المتبرجات ، وربما حضر معه غيرُه من أقاربه أو أقاربها من الرجال ، ولا يخفى على ذوي الفِطَر السليمة والغيرة الدينية ما في هذا العمل من الفساد الكبير ، وتمكن الرجال الأجانب من مشاهدة النساء الفاتنات المتبرجات ، وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة ، فالواجب منعُ ذلك ، والقضاءُ عليه حسْمًا لأسباب الفتنة ، وصيانةً للمجتمعات النسائية مِما يُخالِف الشرع المطهر )) ا.هـ
المنكر الثالث :
غلاء المهور والمبالغة في تكاليف وتجهيز الأفراح ؛ الأمر الذي لا يحتمل السكوت عليه إلى حدّ يصبح فيه ذلك الحفل والزواج حديث الناس ، ومثار كثير من التساؤلات . كل هذا أثقل كواهلَ الأزواج الذين أنفقوا مِن أجل تحقيق ذلك الألوف ، وأرغمت من أجله الأنوف .
أيها المسلمون : إن مظاهرَ البذخ والترف والتي يتباهى ويتفاخر بِها بعضُ المسلمين هي في الحقيقة مِما ينافي مقاصدَ الشريعة وغاياتِها النبيلة التي جاءت بِحفظ الضروريات الخمس ؛ ومنها حفظ المال ، قال تعالى : { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ـ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } ، وقال سبحانه : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } ، وقال سبحانه : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } ، وقال جل وعلا : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } ، وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام : " خير النكاح أيسره " [وصححه الألباني 3300 ] .
فلا إله الا الله !! كم نرى اليوم إسرافاً في المأكولات والمشروبات ، وربما رُفِعت عشرات الأطباق لم تمسها يدٌ قط ؛ ليكون مصيرها إلى صناديق القمامة والنفايات ـ نعوذ بالله مِن سخط الله ـ .
قال سماحة العلامة ابن باز رحمه الله (4/38) : (( وقد ابتلي الناس اليوم بالمباهاة في المآكل والمشارب خاصة في الولائم وحفلات الأعراس فلا يكتفون بقَدر الحاجة ، وكثيرٌ منهم إذا انتهى الناس من الأكل ألقَوْا باقي الطعام في الزبالة والطرق الممتهنة . وهذا مِن كُفر النعمة وسبب في تحولها وزوالها )) اهـ . [رسالة وجوب شكر النعم] .
وإنك لَتعجب ـ أيها المسلم ـ مِن بعض مَن يرمُون هذه النِّعم في الليل عندما تراه قد جاء في الصباح لِيُصلي مع المسلمين صلاة الاستسقاء ، ويقول : اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا !!
والأعجب مِن هذا أننا نجد أُسَرًا ليست بعيدة منا قد أضناها الجوع الشديد تَبيتُ وبطونُها طاوية ، وبيوتُها خاوية لاتجد فتات الخبز ـ اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك ـ قال عليه الصلاة والسلام : " ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه " [الطبراني والحاكم صححه الالباني 5382] ، وقال أيضا : " ما آمن بِي مَن باتَ شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به " [رواه البزار والطبراني صححه الألباني5505]