الزهراء و زینب فی المدینة و الکوفة و الشام دفاع عن حق المسلمین وبغضّ النظر عن كلّ هذا فإنّ مخاصمة واحتجاج وخطبة سيّدة نساء العالمين وابنتها زينب الكبري عليهما صلوات الله في مسجد النبيّ وفي الكوفة والشام لمتكن بسبب تضييع وإهدار حقّهما الشخصيّ كي يغضضن عنه طرفاً ويعفونَ تقديماً لسجايا الاخلاق ومحاسن الصفات الاءنسانيّة.
كانت تلكم الخطب علي أساس المصلحة العامّة وإيقاظ أذهان المجتمع وأفكاره في ذلك الجيل وفي الاجيال التي تليه أنّ خيانةً قد ارتكبت في حقّ نظام الاءسلام بعد رحيل رسول الله ، في المدينة وفي سقيفة بني ساعدة محلّ انتخاب الخليفة ، وعارضت بشكل صريح القرآن وسُنّة رسولالله ونهجه، وحاربت كلّ جهود ومساعي النبيّ في حياته.
أمّا في كربلا فإنّ نظام بني أُميّة العدوانيّ الظالم قد مرّر شفرة سيفه علي إمام الزمان وأولاده وأرحامه وأصحابه بجرم المناداة بالحقّ، ثمّ ساق أهله سبايا في الصحاري، وفوق ذلك فقد دعوا سيّد الشهداء عليه السلام بالخارجيّ المتمرّد المتطاول علي أوامر الحكومة المركزيّة، وباهوا وتفاخروا بإغارتهم عليه وعلي عياله.
لقد افتقد العفو هنا معناه ، بل كان للسكوت حكم الاءقرار والاءمضاء والرضي بتلك الجرائم، فالسكوت مقابل الظلم والتجاوزات بمثابة الحكم بصحّتها وإعطاء الصورة الحسنة لعملهم القبيح.
كان الواجب هنا هو الصراخ والاعتراض وتعداد الجنايات، ولقد تحرّكت العقيلة، ليس فقط في الشوارع والازقّة ، وإنّما من كربلاء إلي الكوفة، ومن الكوفة إلي الشام ، ومن الشام إلي المدينة، ثمّ لمتهدأ في المدينة ولميقرّ لها قرار ، فقد كانت تجمع النساء حولها كلّ يوم وتعدّد الوقائع والاخبار واحدة واحدة بأدقّ تفاصيلها إلي الحدّ الذي لميكد يمرّ علي واقعة كربلاء زمن طويل حتّي أرسل حاكم المدينة أن: يجب أن ترحل زينب عن المدينة وإلاّ هدمنا سقوف بيوت ولد عليّ وعياله علي رؤوسهم.
[1] وعلي أيّة حال ، فقد كان هذا أُنموذجاً للعمل بالقرآن ووسيلةً لبيان أصالة وخلود تعاليمه ، فحين تقتضي الاُمور عدمالعفو والمسامحة ويتوجّب علي الاءنسان التصدّي للمعتدي بكلّ ما أُوتي من قوّة، بقبضته بأسنانه وأظفاره، وبالصراخ والضجّة والغوغاء ، فعليه أن يفعل ذلك.
الرجوع الي الفهرسفی مفهوم آیة : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـ'هِلِينَ أمّا حين يكون الضرر والخسارة شخصيّاً لايتعلّق بمصلحة أو مفسدة عامّة فإنّ السكوت في هذه الحالة لن يؤثّر في إقرار الظلم والظالم، بل إنّ الجهر بالجناية لنيكون له تأثير إلاّ الحطّ من سمعة الاءنسان وكرامته والتسبيب لنشوب الخلافات والنزاعات الشخصيّة والعائليّة، في هذه الاُمور وأمثالها يعدّ العفو أولي من جهر الاءنسان بالسوء من القول، عصمةً للسانه من التلوّث بالسوء، وحفظاً لنفسه الشريفة من الاضطراب والجدال والنزاع بلاطائل، وحينذاك ستستقرّ حلاوة العفو والمسامحة في أعماق نفسه، يجد ينعها وحلاوتها وطراوتها كما لو كانت تلك الطراوة والحلاوة معه يتلذّذ بها علي الدوام.
وقد واجه هذا الحقير موارد كثيرة كانت مصداقاً لهذه الا´ية المباركة، كنتُ في بعضها بصدد الدفاع والجهر بالقول ، وقدّمتُ في البعض الا´خر العفوَ بتوفيق الله ومنّه ، وأعرض لاءخواني الاعزّاء في ختام هذا البحث موردينِ من الموارد التي آثرتُ فيها العفو وتذوّقت ثمرته.
لقد كان لوالدي بي علاقة حميمة ، وكان يمتدحني أمام الجميع، ثمّ جعلني وصيّه ووهبني كذلك مكتبته أيّام حياته ، وكنتُ آنذاك في الخامسة والعشرين من العمر، حيث أنهيت دراستي وإقامتي في الحوزة العلميّة في قم وعزمتُ علي التشرّف بالذهاب للنجف الاشرف لمواصلة الدرس والتحصيل حين التحق والدي برحمة الحقّ الابديّة، فأُجبر هذا الحقير للّبث في طهران مؤقّتاً لتصفية الاُمور وتنفيذ الوصيّة بنيّة السفر بعد إتمام ذلك.
ولقد تدخّل الشيطان في هذه المرحلة وشتّت الاُمور المتّسقة وأهدر مساعيّ لتنفيذ الوصيّة، وأوجد ثغرات يصعب سدّها وعراقيل يصعب اجتيازها، وكان السبّاق عند كلّ خطوة تُخطي للاءصلاح والتوفيق، يسدّ الطريق ويُحبط الجهود ويجعل حركاتي وسكناتي ونواياي في معرض الاتّهام وسوء الظنّ، إلي الحدّ الذي عجزتُ بعد إقامة سنة في طهران عن تنظيم الاُمور، واضطررتُ من ثَمَّ لغضّ النظر عن سهم الاءرث وشددتُ الرحال مع الوالدة المكرّمة إلي النجف الاشرف.
ولقد كانت المعارضة والمواجهة مع هذا الحقير شديدة عنيفة إلي الحدّ الذي جعل مسألة توديعي للمعارضين عند عزمي علي السفر أمراً لمأستطع تقبّله وتحمّله.
ولقد مرّت سنتان أو ثلاث علي هذا الامر ، ثمّ سمعتُ عند موسم الحجّ أنّ أحد هؤلاء المعارضين، وكان رجلاً مسنّاً يعدّ من جهة العمر بمثابة أبي، قد جاء إلي النجف الاشرف بنيّة السفر بعد ذلك إلي بيتالله الحرام. ولميُطق وجداني أن أمتنع من رؤية هذا الرجل المحترم المسافر إلي الله، مع أنّ لقاءه ورؤيته كانا بالنسبة لي يبعثان علي الالم والاذي. لكنّي ذهبتُ مع ذلك لرؤيته ورفقائه، وكانوا قد حلّوا في فندق عند دورة الصحن المطهّر قرب مدرسة آية الله العظمي البروجرديّ، وسلّمتُ عليه وعانقته ورحّبتُ به فقال إنّهم جاءوا لعدّة أيّام لزيارة العتبات المقدّسة علي أن يسافروا بعدها جوّاً من بغداد إلي جدّة ، فأظهرتُ السرور وهنّأتُه، ثمّ ودّعته بعد حوالي نصف الساعة وعدتُ إلي المنزل.
وفي الساعة الثالثة بعد الظهر من اليوم التالي، حيث تصل حرارة أجواء النجف إلي أوجها، طُرق باب المنزل ! وفتحتها، فكان الطارق هو هذا الرجل المسنّ المحترم المعارض قد جاء بمفرده ليردّ زيارتي له بالامس، فسلّمتُ عليه ورحّبتُ به وأدخلته المنزل، فقال إنّه يريد أن يودّع والدتي أيضاً، فأخبرته أن لا مانع من ذلك ( كانت الوالدة في هذا النزاع بسبب قربها وعلاقتها بالحقير مورداً للاتّهام وسوء الظنّ ) .
جاء ووقف مقابل الوالدة وسلّم وقال : عزمتُ علي الذهاب إلي بيت الله، فسامحيني.
ردّت الوالدة : لن أعفو عنك أبداً .
قال : يجب أن تسامحيني .
فردّت : هذا مُحال .
فقال : أُقسم بالله لئن لم ترضِ عني فسأعود إلي طهران أترك الحجّ.
فتدخّلتُ قائلاً : أيّها السيّد ! لقد سامحتك والدتي وستسامحك، فاطمئن فسأرُضيها عنك، وستوفّق إن شاء الله في سفرك وتعود مقضيّ المرام. فودّعنا وخرج.
ثمّ ذهبتُ صباح اليوم التالي لرؤيته في الفندق، حيث كان من المقرّر أن يسافر مع رفقائه ذلك الصباح بالسيّارة إلي مدينة الكاظميّة، وكان الجوّ حارّاً، وكان جالساً مع رفقائه في باحة الفندق علي أرائك صُفّت بمحاذاة الجدار وقد حزموا حقائبهم.
قالوا : سنسافر بعد نصف ساعة . وجعلنا نتجاذب أطراف الحديث كأ نّنا لميسبق أن تنازعنا وترافعنا ! وحين أكمل رفقاؤه في السفر وضع أمتعتهم في السيّارة وتحرّكوا لاخذ أمكنتهم التفتَ هذا السيّد من علي الاريكة إلَيَّ قائلاً:
ایها السيّد محمّد الحسين ، سُئل المعصوم عن تفسير هذه الا´ية
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـ'هِلِينَ ،
[2] الرجوع الي الفهرسَ معنی : صِلْ مَن قَطَعَكَ! وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ! وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكفقال المعصوم : ثلاثة أشياء:
صِلْ مَن قَطَعَكَ! وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ! وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ. [3]ایها السيّد محمّد الحسين ! انتظر منك أن تعاملني طبقاً لتفسير هذه الاية.
انقلب حالي ، ولم أستطع مغالبة دموعي فانهمرت، وقلتُ: لميكن ما حصل بالمهمّ، فكن مطمئنّاً أن لا شيء بيننا يحتاج لمثل هذا الاعتذار، فأنا ابنك وخادمك.
ثمّ تعانقنا هناك ، وركبوا سيّارتهم ورحلوا. ذهبتُ علي الفور للتشرّف بالحرم المطهّر، وأدّيت مراسم الزيارة نيابةً عنه وصليّتُ ركعتَي الزيارة، ثمّ دعوتُ: أيّها الاءله الرحيم الذي يؤلّف بين القلوب، عبدُك هذا لايجد في قلبه ضغناً علي هذا الرجل ، ولقد عفوتُ عن كلّ ما مضي، ولقد أتاك قاصداً إليك وزائراً حرمك ، فاعفُ عنه واقرن سفره بالخير والرحمة.
ولقد كانت حلاوة تلك الصلاة والدعاء والعفو عند حرم أمير المؤمنين عليه السلام ذكري لاتُنسي.
الرجوع الي الفهرسمواجهة مع بعض المتطاولین الذین یعبر عنهم القرآن بالملا أمّا المورد الثاني : فقد كان الحقير بعد العودة من النجف الاشرف وعملاً بالتكليف الاءلهيّ يقيم صلاة الجماعة مع بيان الاحكام والمعارف الاءلهيّة وتفسير القرآن الكريم والموعظة والدروس العلميّة في أحد مساجد طهران، وقد سعيت ما أمكنني لتربية الناس بشكل قويم لاأمت فيه ولاعوج ولاتزوير، بلاتفكير في مصلحة أو مراعاة لاحد، ونفذّت في الواقع ما كان يظهر ويتناهي إليه الفكر من متن الدين في دائرتي المحدودة، واعتبرتُ التعامل مع الناس له حكم السفارة الاءلهيّة أو كالنبوّة في نطاق حدودي، إذ ينبغي أن تُلتزم بدقّة حدود الشرع والدين والحقّ والحقيقة والواقعيّة ولاتُتخطّي قيد شعرة.
وكنتُ أتدخّل في جميع أُمور المسجد بشكل مباشر وأستشير المصلّين وأهل المحلّة في مسألة إدارة أُمور المسجد وأستأنس بوجهات نظرهم، لكنّ التصميم والقرار النهائيّ كان لي ، إذ مع التبصّر والتفقّه بأمر الدين والتخصّص في هذا الفنّ ، فلم أكن لاقدرَ أن أُبعد عن نظري المستقلّ مسألة زمام أمر المسجد في مسألة دعوة الوعّاظ والمدّاحين الذين كان ينبغي أن يكونوا معروفين عندي وأن تتمّ دعوتهم بعد موافقتي، وكذا مسألة نصب مكبّرات الصوت بأصواتها المرتفعة في الشوارع وتسبيب الاذي للناس، وإذاعة صوت الاذان من جهاز التسجيل أو من المذياع، وتشكيل المجالس المتعدّدة لقراءة الفاتحة وأخذ وجوه المال من الناس عن هذا الطريق، وكذا فسح المجال واسعاً لمن يستخدم العمامة للاستجداء وإهدار الكرامة والسمعة، ومسألة الفوضي في المسجد وتحويله إلي مركز للتجمّع أو محلّ لتردّد الناس اللاّ أُباليّين، ثمّ إقامة مجالس العزاء المتعلّقة برجال المملكة والبلاط، وأخيراً عشرات ، بل مئات من أمثال هذه المسائل التي كنّا نواجهها كلّ يوم.
ولم أكن لاُوافق علي أن أترك هذه المسائل بأيدي أفراد وسعوا ويسعون باعتبارهم أقوياء المحلّة ووجهاؤها الاثرياء المتنفّذين إلي تسيير أُمور المسجد وتوجيهها حسب وجهة نظرهم، وأن يحوّلوا إمام الجماعة مع امتلاكه المقام العلميّ إلي تابعٍ ومُطيع لهم ، ويسعون بالسلام والصلوات واحتلال واجهة المجالس ، وبالدعوة إلي حفلات الضيافة، وقراءة خطب العقد في حفلات الزواج والتردّد علي مجالس الفاتحة، وتشييع واتّباع الجنائز بما لايُرضي الله، بهذا وغيره يسعون إلي جعل إمام الجماعة مورد هزئهم وسخريتهم وإلي إصابته بمرض تقليد العوامّ والاءنسياق وراءهم.
ولقد نُقل عن أحد أئمّة الجماعة في محلّتنا قوله إنّ أصحاب السوق يريدون أن يمسكوا بشعيرات لحية إمام جماعتهم ، كلٌّ يمسك بشعرةٍمنها ويجرّ باتّجاه غايته وهدفه.
ولقد سعي هذا الحقير خلال مدّة طويلة دامت أربعاً وعشرين سنة بعد عودتي من النجف الاشرف إلي زمان الهجرة لارض القدس الرضويّ عليه السلام، سعيت ما أمكنني لجعل هذا المسجد بوضعٍ يُرضي الله سبحانه هادئاً بعيداً عن الرياء ، وإلي تحويله إلي محلّ للتفسير والموعظة والاخلاق والمعارف الاءلهيّة.